عن المُكثِرْ | 28 نوفمبر

الفيس بوك

إعلان

عن المُكثِرْ

جمعة, 09/02/2016 - 19:57

أما إنّك لو رجعت إلى الأصمعي أو إلى ابن السكيت لقال لك إن المُكثِرَ هو الغني. وهذا ممّا لا يقبل به لغويو البيضان. فالمُكثِرُ عندهم "كثيرُ الأخبار"، يعني السمج، ثقيل الهوى، الفَظّْ، وهو أيضاً عكس ما عند الأصمعي،الذي قد يعني بـ"كثير الأخبار" الأديبَ الطريف. إذ تجدُر الإشارة إلى أن الشاعر المكثر هو خلافُ الشاعِر المُقِّل. مثلاً أبو العتاهية مُكثر. أما المرقّش الأكبر فمقّل. وكان يمكنُ لزهير بن أبي سلمى أن يكون مُقِلاًّ، إذ لم يكن يقول قصيدة إلا مرّةً واحدة في العام. ولكنّ المشكلة أنه كان مُكثِراً في العمر.

المهم أن المُكثِرَ عند البيضان ليس محموداً. أولاً هو مقسول (=مغسول)؛ وبدورها فليست الـ(ـغـ)سلة، رغم أنّها تتقاطع مع النظافة، حميدة. ذلك أن البيضان عرفوا أنهم إذا غسلوا الأشياء (التمر مثلاً او "النيلة") ذهبت نكهتُها. وثانياً هو يدسُّ أنفه فيما لا يعنيه (مع دسّه طبعاً فيما يعنيه. وليس هنالك شيء لا يعنيه. ولا توجد بئر ليس له فيه دلو و"خطية"). ثم إنّه، ثالثاً، "طويل الكرّة" (وعلينا أن نُضيف بأنه خاليٌّ من الدّسم). والكرّة هي الإعادة. والإعادة هي "الرّدْ"، وبالتالي فهو "ردّادْ" و"بهبارْ". فيُعيد أفعاله وأقوله ويعيد إعادتها. وهي أفعالٌ قلنا للتّو إنها ليست ظريفة. عموماً: يتطاير رذاذ فمّه بلا طائل.

ويميِّزُ البيضان بحذاقة بين الكلام والقول. فأما الكلام فهو بالمرّة، إن لم يكن بالإشارة. وأما الثرثرة فهي من الإعادة ومن الكرّة. وبالتالي يُقال عن الثرثار إنه "ردّادْ". وعن الحكاية إنها "امردّة". أما عن الوعود الباطلة والكلام الخاوي فهو "إلاّ الرّدّْ" أو "إلا لِمرادْ". ويجب التمييز بين "الكّلاّم" و"الرّدّاد" فـ"الكّلاّم" أريبٌ حاذق؛ أما "الرّدّادّْ" فهو كثيرُ الكلام بلا فائدة. وقد تقرأ له المقال تلو المقال بلا فائدة تُجنى.

المُكثِرُ عند البيضان يُعاقب على حدِّ جرمه. فإذا كانت جنحته الهذر فإن عقوبته الانتباه له. ويؤكِّد البيضان دوماً أنّه "يُنتَبَهُ لمن أكثَر" (اللي كثّرْ ينفطَن لُ). وهذا شبيه بما اقترحه نصر الدين جحا بمكافأة التشجيع بسماع صرير النحاس أو بمرق بخار الحساء. الجنحة أدبية، وبالتالي فالعقوبة من جنسها.

مسألة: هل المُكثِرُ هو اللّحلاح؟ "قُلْ الروح من أمرِ ربِّي". ما نعرفه أن الفوارق ضيّقة هنا. أولاً كلاهما طويل الكّرة. كلاهما مخبوش. وردّاد. وقد يبدو اللحلاح مهتماً بالخصوصيات وبفرض الرقابة الاجتماعية. فهو مطاوع ولكّن باللسان والحكاوي. أما المُكثِرُ فلا تُشترطُ فيه النميمة. وقد يكون كاتبَ رأي يتناول الرأي العام، ولكن بالإسهال والإسهاب والكرّة وإعادة الكرّة.

والله أعلم