مسعود ولد بلخير يكتب: منبر حر ( الحلقة الاولى) |
الثلاثاء, 18 مارس 2014 18:11 |
بينما يتساءل الكل حول مستقبل موريتانيا، اليوم وقد جاءت أحداث الشغب الأخيرة لتـُـكـَـدّر صفوَ الحوار حول الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، فإن مساهمتي (أو كما أرجو) في تبادل وجهات النظر حول الوضع السياسي للبلاد وحول مستقبلها، تبدو لي واردة، خاصة أن الأنظار، في الغالب الأعم، وفي ظروف مماثلة، كثيرا ما تركز على شخصي المتواضع؛ تارة لتبرئتي وتارة بغية سحقي، لأكون كبش فداء ما كان أبدا لتـُـخطئه الضربات المتتالية. قسوة وتعدد وتنوع أشكال ومنابع الضربات التي أتلقاها، دون أن أكبو، ستحيل قطعا إلى الاعتقاد بأن هدفي، من خلال هذا المنبر، هو أن أعلن أن ساعة تصفية الحسابات قد أزفت. لكن ليطمئن الجميع، لأن هذه الساعة، في ما يخصني، لم تدق ولن تدق أبدا لسببين اثنين: الأول أن الشعوب، كل الشعوب وكل الآراء، تفضل التململ على أرجوحة الأوهام كي تواصل الأمل ، بدلا من مواجهة واقع كثيرا ما يكون محبطا غيرَ مطاق، وتخلق دائما كبش فدائها لتجعله مسئولا عن العجز الجماعي، ومن ثم هدفا لسخطها. الثاني أن السرعة التي وقعت بها الأحداث الأخيرة مقلقة لأكثر من سبب، ولا يمكن اعتبارها عفوية أو صنيعة صدفة، بل تنبئ بغد دامس يمنعني من تأجيج الخصومات الشخصية التافهة في النهاية، والمتجاوزة اليوم في وقت تفرض فيه وحدة الجميع نفسها كي ننجح في تجنب المؤامرة الحالية وكل المؤامرات اللاحقة. هدفي إذن، ومرة أخرى، هو أن أخفف وتيرة الضغط، وأن أكون بشيرَ دعوة تحقيق الوحدة والأمن والسكينة والتضامن وتماسك نسيج المواطنين. إن هدفي كامن أيضا في أن أعبر بصوت جهوري عن سخطي واستنكاري التام لأعمال الشغب التي حدثت مؤخرا، وأن أؤكد أنها غريبة على عاداتنا، وأن عليها بالتالي أن توقــَــفَ نهائيا، وبحزم، وبعيدا من التسييس أو أية اعتبارات أخرى. ومن الجلي أنه لا مجال للتشكيك في حسن نوايا أي كان، كما لا مجال إطلاقا للاستخفاف بمسوغات غضب القائمين بأعمال الشغب. غير أن ما يهمني هو أن أشير وأنبه بإصرار إلى ما يلي: إنه من المذهل جدا وغير المفهوم أن إجماع الموريتانيين على الإخلاص المتفاني للإسلام (ديننا المشترك والمقدس)، وأن خوفنا الفطري من تمزيق القرءان الكريم الذي نتوارثه كابرا عن كابر، وأن تفانينا في الإخلاص للنبي الكريم (صلوات الله عليه وسلامه)، بالإضافة إلى الدور المتميز للغاية الذي لعبه شعبنا الباسل المسالم سواء في الشمال أو في الجنوب، أمور بدت غير كافية لتحصيننا ضد أية ردة فعل تخلق فوضى عارمة، وضد الاستفزاز خاصة إذا كان ذا طابع ديني بإمكانه أن يُـعَـرّض حياة الناس وممتلكاتهم للخطر. لهذا لا يمكنني أن أتابع، دونما تعاطٍ، الاستغلال الإجرامي لبراءة الناس بغية سَوْقهم نحو أهداف خاطئة صممها آخرون، يجهلون تقاليدنا وعاداتنا، لمجتمعات تختلف تماما عن مجتمعنا. ومما يجدر التذكير به، بوضوح وإلحاح، أنه لمُـخيب وغير مجد التظاهر بضمان طمأنينة وأمن الناس واستقرار المؤسسات، مع تجاهل مطالب المواطنين المشروعة وهم يتعرضون يوميا لاعتداء اللدغ الفظ للجريمة والمجاعة، بينما عقولهم مسكونة بالشعور المزدوج بأنهم مظلومون ومتروكون لحالهم. الوضع الحالي للبلاد، وعكسا لما جرت عليه العادة، يـُـنظر إليه من قبل الضمير الجمعي كنتيجة مباشرة لسوء الحكامة وإفلاس الوعي الوطني والانبعاث شبه المنظم للقبلية والعرقية والطائفية التي تشكل مقياسا أكيدا للمحاباة والإقصاء الذيْن يولدان الانتفاض والعنف. ينضاف إلى ذلك، الشعور العام تقريبا بأننا نبدو وكأننا نسعى جاهدين لتقويض شرف وكرامة وصيت وقيمة كل الوطنيين بلا استثناء، لدرجة اعتبار المجتمع خال من أي رمز، ومن أي محب لوطنه، ومن أي مرجعية دينية أو قضائية ذات مصداقية، ومن أي مواطن نزيه بصدق. لا مصداقية لأحد ولا أهمية لأحد ولا أحد يستحق الاعتبار والاحترام. هذه الرؤية المهينة على نحو مبالغ فيه، تجعل منا مجتمعا بلا ثوابت وبلا معايير مرجعية، مجتمعا يُـقــَــيّـم الفردُ فيه حسب حسن أو سوء علاقاته بفلان، وحسب خياراته السياسية أو الأيديولوجية أو حتى أصوله الاجتماعية. لكن الغريب والمذهل أننا نلاحظ أن هذا التقييم، غير الموضوعي والشخصي، مفروض بتعسف على الرأي العام بكل حرية وبكل حصانة من قبل الإعلام ومن قبل محيي سهرات الصالونات و/ أو المتجاذبين أطراف الحديث فيها، مما يمثل، بحد ذاته، مساسا خطيرا بديننا وبطبقتنا السياسية، ويزيد هشاشة بلادنا ويهدد مستقبلها. أليس من الصادم أيضا أن نشاطاتنا السياسية لا يتم تقييمها إلا من حيث الخسارة والربح الجشع بشكل فج، وليس من حيث الهم الوطني بحاضر ومستقبل البلاد؟ لذلك يجب أيضا أن نقول، بل نصرخ ملْء أفواهنا، بأن ضمان السلم الاجتماعي، والحفاظ على أرواح الناس، وتأمين الممتلكات، وتحاشي أعمال الشغب ومَـواكب العنف المصاحبة لها، يتطلب - قبل كل شيء- وعيا حقيقيا بكل هذه العاهات التي تشكل الكثير من المخاطر المحتملة المهددة البلد. إنه يتطلب أيضا التعجيل باتخاذ كل القرارات التي من شأنها التخفيف من ارتجاج موجاتها الصادمة, في انتظار التخلص منها نهائيا ببروز دولة قانون حقيقية. إنها ذات الأمور، المقلقة والمثيرة، التي ترغمني اليوم، على عكس عادتي، أن أتكلم أيضا عني شخصيا، على أمل أن يتم الترحيب بهذا المسعى من قبل رأي عام كثيرا ما سيق إلى الخطأ على يد وفرة من "الصحفيين والمعلقين السياسيين والمثقفين والمتخصصين" الذين كثيرا ما اختاروني كموضوع للبحث والدرس، ولم يتوقفوا أبدا عن إهانتي ظلما لأنهم لايريدون معرفتي ، ويعتقدون أنهم بذلك يساهمون في تلميع صورة من يتوددون لهم. عكسا لبعض أقراني الذين اختاروا السياسة، فأنا إداري مدني بالتكوين، بمعنى أنني بشر مُشــْـــبَـع حتى النخاع بمفهوم الشأن العمومي، لأنني في بحث دؤوب عن المصلحة العامة وعن حل النزاعات التي تنشب بين الأشخاص وبين المجتمعات، ومهموم باستمرار بأمن الناس والممتلكات، كما هو الحال بالنسبة لسلم وطمأنينة الساكنة. لقد حصلت على هذه الشهادة بالانكباب والمثابرة في العمل، دون مساعدة أو مساندة أي كان، وليس في جعبتي غير شهادة ختم الدروس الابتدائية وتعاليم تحية الكشـّــافة التي درستها وأنا في الـ 14 من عمري بإعدادية روصو، والمتمثلة في:" 1- أن تخدم بلدك، 2- أن تقدم الخدمة في كل مناسبة، 3- أن تنصاع لقانون الكشافة، تلك هي مدلولات الأصابع الثلاثة المرفوعة، بينما يعني وضع الإبهام على الخنصر أن الكبير يجب أن يحمي الصغير وأن القوي يجب أن يدافع عن الضعيف". كانت الإدارة الإقليمية مجالا لمراقبة وتطبيق هذه المفاهيم وهذه التعاليم حيث عملت وأنا بعد في الـ 16 من عمري، بادئا بصفة "المتطوع" سنة 1959 ومنتهيا بصفة الإداري المدني، بعد 20 سنة، أي في سنة 1979. لقد وضعني مشواري في اتصال مباشر مع الواقع الخام للأرض (البلاد) المتعدد رغم أنه واحد، كما وضعني في اتصال مباشر بأناسه (المواطنين) مع كل ما يعنيه ذلك من متناقضات وبذخ وتواضع وبساطة وأخوة ومساواة، وتضامن وتسامح يتعايش بسهولة مع الفقر المدقع واللامساواة والرق والظلم والعنصرية والتهميش والفردانية والإقصاء. هذه المفاهيم، وهذه الحقائق التي تشغل مساحة تفكيري، والتي تمتزج بالدم المتدفق في أوردتي، كبحتْ في ذاتي همة البحث عن المصلحة الخاصة أو الشخصية لكي لا تترك مكانا لغير المصلحة العامة التي ظلت دائما الأساس الصلب لمبادئي، وكانت أساسا لكل قراراتي ومواقفي السياسية. هكذا لست في خصام شخصي مع أي شخص، كذلك لست عدوا لأي شخص. ولست محتكرا لأية قضية مهما بلغت من الأهمية لدي، كما لا أبحث عن طريقة لفرض وجهات نظري أو فرض شخصي على أي كان، مع احتفاظي بحقي في رفض إملاءات أي كان. ما من ملجإ أحس فيه براحة البال غير بلادي موريتانيا.. لا أحب أن أتزيـّـا إلا بزي تقليدي (الدراعه والسروال).. لا أحب تناول الطعام على طاولة المائدة، ولا أقضي عطلي إلا في موريتانيا.. لم أقحم أبدا أي أجنبي، مهما كان، في المشاكل الداخلية لبلادي، ولم أبحث أبدا عن سند خارجي لحلها. أنا أنحدر من سلالة موريتانية: إبن عبيد وحفيد عبيد. وهو ما لم يكن بالنسبة لي معوقا يستحيل تذليله، كما تمنى البعض، لكنه، عكسا لذلك، كان محفزي الأول.. إنه المنبع الذي اغترف منه اعتزازي وطاقتي وحماسي وقوتي وإصراري، لكن أيضا صبري وتواضعي. لقد عانيت، وكثيرا ما تلقيت أهوال الحرمان والإذلال والسخرية والظلم والتمييز والإقصاء وسوء الفهم ونكران الجميل والخيانة، تارة بفعل الطبيعة وتارة بفعل مواطنيّ، إلا أنني كنت دائما أواصل السير في طريقي بإصرار، دون يأس ودون أن أجرد نفسي من صفاتي الإنسانية، ودون كراهية طبعا، بل كلي ثقة في الله، وفي المبادئ التي تلهمني، وفي الأهداف التي أنشد، وبطبيعة الحال كليّ ثقة في نفسي. إن طموحاتي النقية والنبيلة تجاه بلادي وتجاه شعبي، كل شعبي، لا يمكن كبح جماحها أو تقييدها إلا بما لدي من احتراز بأن أسهر دائما على أن لا أساوم بأي عمل أو موقف بإمكانه أن يشكل خطرا على الوحدة الوطنية أو على السلم والوئام الاجتماعيين. لهذه الأسباب كلها، فإن النقاش والحوار والتشاور والتنازل والأخذ والعطاء، دون أن تلحقها أضرار المطالب والاحتجاجات وحتى التحريض السلمي، تشكل، من وجهة نظري، "درع" السياسي الكامل الطامح إلى تحقيق أمور عظيمة يمكنها أن تنفع وتستمر. إنني بعيدٌ إذن من هذه الرغبة الجامحة لـ"الظهور" المرادفة، في أيامنا هذه، للسباق المحموم إلى اعتلاء المناصب السياسية والإدارية السامية، وتارة السامية جدا، لأن ذلك لم يكن أبدا هدفا بالنسبة لي ولأن سيرتي الذاتية ليست خاوية لهذه الدرجة. لست حسودا ولا غيورا، ولست أبدا في تنافس إلا مع نفسي، وأنا بطبيعتي مسكون على الدوام بمرض الخوف من أن لا أنجح في التجاوز في إكمال ما أراه خيرا وعدلا. لقد قبلت، في أحايين كثيرة، أن أنأى بنفسي عن الأضواء عساني أفيد أو أمنح فرصة لغيرى، سواء كان صديقا أو زميلا أو جارا أو مجرد رفيق سفر عابر. لم أكن أبدا أتردد في دعم ومساندة من يشكل قناعة بالنسبة لي، حتى ولو تقدم عليه منافس آخر. إني أعشق بلادي حدّ الجنون، ولا شيء يجرحني أكثر من أن أراها في مؤخرة الركب على المستوى المؤسساتي أو حتى المعداتي بالمقارنة مع بلدان أخرى قريبة أو بعيدة، لأنها، مثل تلك البلدان، لديها شعبها وتاريخها وحضارتها وثقافتها، وتارة تحوز، أكثر من تلك البلدان، مصادر مختلفة ومتنوعة (معدنية، مائية، زراعية،بحرية ، ويدا عاملة رخيصة، إلخ). لهذا لا أتوقف عن القول بأن التغيير ممكن. فيكفي لأصحاب القرار، ولنا، نحن الأطر، أن نقتنع به، وأن نصبو إليه، وأن نشترك فيه نظريا وتطبيقيا، لنجر وراءنا كل الشعب الذي لا ينتظر غير هذا. إني لأرجو من كل الفرقاء السياسيين أن يقيسوا حجم التحديات التي تواجه البلاد. أريد لهم أن يعوا مسؤوليتهم الكاملة في بنائها وهي في بداياتها، وأن يفهموا أن قِـــدَم وهشاشة هياكلها يعرضانها، أكثر من غيرها، لعدم الاستقرار والعنف الهدام. وبغية درء سوء الطالع، أريد أن أضم جهودي إلى أولئك الذين يسعون لكسب رهان بناء موريتانيا من أجل إخراجها من هذا الممر. ومن الأهمية بمكان أن يكون استقرارها مضمونا، لأنه بدون استقرار لا وجود لبلاد، وبدون استشراف واضح لبلاد، لا وجود للأمل. لهذين السببين من المستعجل منح المشككين إشارات قوية بما فيه الكفاية لإقناعهم بأن التناوب السلمي على السلطة هدف وأنه ممكن التحقيق. يجب أيضا أن نولـّد لدى معيل الأسرة الأمل بأنه عندما يخرج من منزله صباحا سيحصل على ما يسد به رمق أطفاله وسيجد فرصة عمل دائم أو مؤقت. لابد أن يولـّد لدى كل المواطنين الأمل في مشاهدة إعادة تأهيل المدرسة، والاستفادة من تغطية صحية جيدة، والحصول على الماء الشروب، والتطور السريع لبنية تحتية تامة للطرق ووسائل الاتصال. إنه أيضا لمن المستعجل والمخـَـلــّص أن نمنح للمتقاضين الأمل في أن العدالة بشأنهم ستأخذ مجراها الطبيعي، ونمنح لرواد الإدارة الأمل بأن حالتهم سيتم تناولها بجدية، ونمنح للطلاب الأمل في أن شهاداتهم ستضمن لهم وظيفة ثابتة. كما تجب حماية وتشجيع القائمين على الإعلام والصحافة بأن تـُـخلق لهم الظروف المثلى للعمل بغية أن يكون من حق مدمن الانترنيت وقارئ الجريدة ومستمع الإذاعة ومشاهد التلفزيون أن يفرض أقل قدر من الاحترام. هذا الاحترام الذي يتضمن حتما الحقيقة والموضوعية والنزاهة التي تنبني عليها المصداقية والنجاح. مسعود ولد بولخير |