منبر الظلام / أحمد صمب ولد عبد الله
الثلاثاء, 18 مارس 2014 17:57

ليس من السهل التخلي عن العادات السيئة، ولو كانت عائقا دون إحلال التنمية و التقدم. وبقدر ما لم يعد التخلف عن الركب مقبول، فما بالك بالترسب في القاع. ليست التحضر، قضية نزوات ولا أهواء، الأمر أعظم، فلا يمكن إزاحة القبح عن الواجهة،

 إلا بتغيير العقليات و التطور. لا ينبغي أن نسكت على العار، ولا أن نستسلم للانحطاط ولا أن تهزمنا الغوغاء. لن نقبل بقتل العمل والإبداع، ولا بسيادة الظلام، ولا بعتمة الوبر.

تبدو الغوغاء مصممة، مصرة على تحدينا، وتهديد أمننا، وتشويه صورتنا، وتسفيه أحلامنا، وإبقائنا في قاع التخلف والانحطاط. لا يمكن لبلد أن يأمن والعبودية تمجد فيه، ولا يمكن إحلال التقدم والعمل منحط، مذموم، وسفيه. لن يكون للعمل قيمة ولا شرف والاستعباد موقعه، ولا مكبل ومغلول بالأصفاد؛ يمقته السيد ويمقته العتيق، موطنه العبيد والصناع.

إن الشعوب التي تمارس فيها العبودية لا يمكن أن تأمن بالاستقرار، ولا أن تتقدم، أو تزدهر مهما طال الزمان. فالعبودية تذكي الكراهية والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد، تزرع بينهم العداء، فتتغلغل في صفوفه الخلافات والبغضاء؛ فتتسع الهوة بين مجموعاته، وتجعله يتصارع بعضه يقتل بعض؛ تسلب العمل نبله وشرفه فيهجره الأسياد، فيقل الإنتاج وتزداد الحوائج، فيعم البؤس وينتشر الفقر. إنها تشعل الحروب الأهلية وتَنْسفُ وحدة الشعوب وتقسم الدول، فضل عن كونها عائق لا يمكن اجتيازه في الاتجاه النمو والتقدم.

أشعلت العبودية حروب أهلية، عصفت بمجتمعات بأكملها، وأسالت أنهار من الدموع والدماء، خلفت أرامل وأيتام، ومضطهدين ومشردين، لا يحصى عددهم ولا يعد. أوقدت حرب أهلية قضت على الأخضر واليابس في أمريكا، بين الشماليين المطالبين بإنهاء العبودية، والجنوبيين الرجعيين. اندلعت الحرب بين بني العمومة - بين البيض ملاك العبيد - لما تبين للمستنيرين، الشماليين، أن العبودية، هي أبشع ظلم يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان؛ وأنها عائق في وجه التنمية والتقدم، لا يمكن إحلال بناء في ظله، ولا تطور ولا ازدهار.

ثم أن العبودية أشعلت حرب أهلية في "هايتي" بين العبيد وأسيادهم، أبيد فيها الأسياد، قتل رجالهم وأطفالهم واغتصبت نسائهم، وألقيت جثثهم في البحار. ليس في العبودية خير ولا أمن ولا تنمية ولا بناء؛ وليس فيها إنسانية ولا وحدة ولا إخاء، ولا استقرار. تتربص بنا كل يوم، توقظنا من مضاجعنا، تقتحم علينا بيوتنا، تحتل فضاءنا، تفسد نخبتنا، تُسقطُ صحافتنا، وتُألب ضدنا تلفزتنا الوطنية، تجعلها عارا علنا، وعدو يزرع الشقاق والفتنة بين صفوفنا.

إن تمجيد التلفزة الوطنية للعبودية، وتماديها على ذلك، لجرم في حق الشعب وحكامه وأحزابه ومنظماته. لا يمكن أن يكون هذا المنبر الذي أُسسَ لإنارة وتنوير المواطنين وتثقيفهم، منبرا للدعاية الظلامية وللظلاميين، وعائق منيعا ضد حرية التعبير والرأي و الرأي الآخر. إن البرامج التي تبثها التلفزة الوطنية، وخاصة برنامج "اجماعة"، لتشكل تحدي لكل الإرادات والنوايا الصادقة، والنضالات ضد الاستعباد. هذه البرامج المتخلفة تمجد ضمنيا العبودية، وتتفنن في الدعاية السافلة، التي لا قصد لها سوى إعادة صنع الماضي من نواحيه السلبية، تلك، الجوانب التي تكرس الاسترقاق والطبقية والتفرقة العنصرية.

إن الوجه الذي تعكسه شاشتنا الوطنية، لا يمت لواقعنا بصلة، فهو مناف للحقائق ومحرف لها. يبدو أن القائمون على هذا الصرح، لم يقتنعوا بالتوجه الذي تبنته الدولة، والذي يفرضه العصر، أو أن عقولهم غير قادرة أصلا، على التطور والتقدم، ومسايرة ثقافة المرحلة : حرية التعبير ونشر الخبر بمهنية وحياد، وإعداد برامج تثقيفية مستنيرة. ويتجلى العجز في قضية العبودية التي تم اكتشافها الأسابيع الماضي في شمال البلاد، لم يتكلم عنها تلفزيوننا الوطني ولا ببنت شفة، كما لو أنها وقعت على المريخ، ولم يكن مسرحها هذه البلاد؛ ثم ان معالجتها لجريمة تدنيس المصحف الشريف كانت أسوء ما يكون.

إنها ببساطة تتجاهل التوجه العام الذي هو القضاء على العبودية، وتفشل في دورها، في معركة القضاء على هذه الظاهرة، التي تشين البلد وتهدد أمنه وتقف عائقا في وجه تقدمه ورقيه وازدهاره. ولا تقتصر المسألة على العبودية وحدها، فالطواقم العاملة في التلفزة الوطنية، وحتى الكاميرا والميكروفون المتجولين في الشارع، يعكسان الطابع العنصري للقائمين عليها، مما يجعلها ممقوتة ومهجورة من لدن المواطنين، حيث لا يكاد يتابع برنامجها أحد، لسبب تخلفها وفقرها، ورداءة إنتاجها.

عندما تتناول الأخبار، تأتي بها محرفة. ديدنا التطبيل وتمجيد التخلف ونشر الدعايات المقرضة، المعيقة لترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لا يمكن أن يترك مرفق، من المفروض أن يكون ذو خدمة عامة، منحرف إلى هذا الحد؛ فالأجدر بالسلطات العمومية أن تقوم بإصلاحات جذرية عليه وترفع يد الوصاية عنه، و أن ينتخب من يديرونه من لدن العاملين في الحقل الإعلامي، بدل أن يكونوا معينين من طرف الحكومة. وذلك ليتسنى له القيام بدوره التنويري التقدمي، أو أن تغلقه وتحله نهائيا، إذ لا فائدة لتلفزة لا قيمة لبرامجها، وتقف عائقا أمام التنمية والتقدم وحرية الإعلام، وأن توجه التمويلات التي تخصص لها، لدعم القطاع الإعلامي الخاص، من فضائيات وإذاعات ومواقع إلكترونية وجرائد ومجلات. سيكون ذلك حتما، أفضل واكبر فائدة على الوطن والمواطنين.

إن القطاع الخاص على علاته، ليوفي بالغرض المطلوب بوجه أكمل وأحسن مما يؤديه التلفزيون الوطني، وكذلك بتكلفة أقل على دافع الضريبة، وعلى المال العام. وليس طلب إغلاق التلفزة الوطنية بالشيء الغريب، كما قد يتصوره البعض، ففي الكثير من الدول، و لاسيما تلك المتقدمة إعلاميا، لا تمتلك الحكومات ولا الدولة قنوات فضائية؛ ففي أمريكا مثلا، لا يوجد تلفزيون وطني ولا إذاعة وطنية، بل كل القنوات مملوكة من لدن القطاع الخاص، باستثناء بعض التلفزيونات والإذاعات الدعائية الموجهة للخارج، والتي تديرها الوزارة الخارجية، مثل صوت أمريكا، والقنوات الفضائية الموجهة للجيش. وعليه، وبما أن الاستغناء عن هذا العبء ممكن، فما القرض إذا، من منبر ظلامي فاشل، باهظ التكلفة، موغل في الرجعية وتمجيد الاستعباد؟