العنف واللاعنف.. متى عربيّاً وكيف؟ |
السبت, 29 أغسطس 2015 01:01 |
صبحي غندور سألني أحد الأصدقاء الذين يتلقون نشرات ومقالات دورية من “مركز الحوار العربي” في واشنطن، عن كيف يمكن فهم دعوة البعض في المنطقة العربية لاعتماد “مبدأ اللاعنف” بينما هناك احتلال عسكري إسرائيلي لفلسطين ولأراضٍ عربية أخرى، وهناك أيضاً جماعات تطرّف مسلّحة ك”القاعدة” و”داعش” تمارس الإرهاب والقتل العشوائي بحيث لا يمكن مواجهتها عبر أسلوب “اللاعنف”. وأجد فعلاً أن هذا الموضوع يحتاج إلى الُتوقَّف عنده، خاصّةً أنّ مسألة “العنف” يحصل فيها تطرفٌ في اتّجاهين: اتّجاهٌ يستبيحه في كلّ مكان، وضدّ الجميع (مدنيين وعسكريين)، وهذا أسلوب “الإرهاب”. أمّا الاتّجاه الآخر المتطرّف والمناقض للاتّجاهٌ الأول فهو يعتمد مقولة “اللاعنف بالمطلق” حتّى ضدّ من يحتلّ الأرض أو يمارس القتل والظلم والإرهاب. ونجد في التاريخ وفي الحياة المعاصرة من هم ضدّ العنف كمبدأ، ولا يقبلون أيَّ تبريرٍ له حتى لو كان الدفاع عن النفس، ويصرّون بالمقابل على استخدام أسلوب المقاومة السلمية كوسيلة لتحقيق أهدافهم. وكان النبي المسيح عيسى، عليه السلام، داعياً لهذا المبدأ، كذلك حرّر المهاتما غاندي الهند من الاحتلال البريطاني في إصراره على هذا المبدأ وأسلوبه اللاعنفي. وأيضاً قاد رجل الدين المسيحي الأميركي مارتن لوثر كينج حركة الحقوق المدنية في أميركا خلال عقد الستينات من القرن الماضي، وقُتل وهو يدعو إلى المقاومة المدنية اللاعنفية. والملفت للانتباه، أنّ هذه النماذج الثلاث من دعاة مبدأ اللاعنف قد اختاروا العذاب أو الموت على يد خصومهم، كثمن لإصرارهم على الحقّ الذي يدعون إليه، ولم يطالبوا أتباعهم بعمليات “انتحارية” بينما هم بأوكارهم مختبئون!! وفي مقابل هذه “المدرسة اللاعنفية” عبر التاريخ، مارست حكومات وجماعات عديدة في العالم، على مرّ الزمن، أسلوب العنف بأبشع صوره، ومن دون تمييزٍ أيضاً بين مقاتلين ومدنيين أبرياء. *** في تقديري، فإنّ واقع الحال البشري يحتّم وجود “مقولة ثالثة” أو “اتّجاه ثالث” يضبط استخدام “العنف” ويحصره فقط -على المستوى الجماعي – بحقّ المقاومة ضدّ الاحتلال، وضدّ العسكريين المحتلّين، وعلى الأرض المحتلّة فقط. أمّا بالنسبة للأفراد، فهناك حقٌّ قانوني عالمي يعطيهم “حقّ الدفاع عن النفس″ حينما يتعرّضون لمحاولة القتل. وحول مواجهة الجماعات الإرهابية، فهي بتقديري من مسؤولية القوى الأمنية في الدول التي تتواجد فيها هذه الجماعات، وحيث من المهمّ وجود ضوابط ومراجع قانونية لعمل هذه القوى، وحيث الفرز مطلوبٌ أيضاً بين مواجهة من يستخدمون العنف المسلح (من الإرهابيين أو حتّى المعارضين) وبين من هم يعارضون سياسياً وسلمياً، ولهم الحقّ بذلك في أيّ مجتمع يحرص على توفير وضمان الحرّيات العامة للناس، بما فيها حقّ المعتقد والرأي والقول. وسبق ل”مركز الحوار العربي” أن نشر في العام 2004 مشروعاً لميثاق عربي شامل، دعا فيه إلى ستّة مبادئ، كان واحدٌ منها يتعلّق بكيفيّة التعامل مع مقولة “العنف واللاعنف”، حيث جاء في المشروع: يحدّد الميثاق رؤيته لمسألة نبذ العنف بالقناعات التالية: لا يُلجأ إطلاقاً لعنف لحسم أيِّ خلاف أو اختلاف، مهما بلغ، بين أطراف عربية، سواء على صعيد صراعات سياسية أو طائفية ضمن القطر الواحد، أو نزاعات بين أقطار، ففي ذلك خرق لتضامن الأمَّة وهدر لكرامتها، وتمكين للأجنبي من أن يتدخَّل فيفرَّق ويسود. يُعتبر البادئ بالعنف في أيِّ نزاع عربي-عربي معتدياً، ويُتعامل معه كمعتدٍ، مهما كانت رجاحة حجّته في النزاع. يُعتبر البادئ بالعنف معتدياً أيضاً على الأمَّة العربية، لأنَّ اقتتالاً عربياً في أيِّما موقع عربي يزعزع الأمن القومي، يريق الدم العربي، ويستنزف طاقات الأمَّة ككل. لا يجوز للسلطات أن تستخدم العنف في غير القضايا الجنائية، واللجوء للعنف في غير ذلك – سواء من السلطات أو من قوى المجتمع- يمثّل إفلاساً فكرياً وأخلاقياً، وتنكّراً للعروبة والدين وللديمقراطية، ويفتح الطريق أمام الحروب الأهلية. استخدام المقاومة المسلحة ضدَّ الاحتلال العسكري، أياً كان، حقٌّ مشروع على الأراضي المحتلة فقط ويُمارس ضمن توافق وطني عليه. *** المشكلة الأبرز الآن هي استخدام العنف بكل أشكاله من قبل جماعات وحركات تحمل أسماء إسلامية بينما الإسلام منها ومن ممارساتها براء. ففي الإسلام، هناك مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء – وهو مضمون المصطلح المتداول الآن: (الإرهاب)- مهما كانت الظروف والأعذار حتّى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب. وفي قول ابن آدم (هابيل) لأخيه (قابيل) حكمةٌ بالغة لمن يعيها: “لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطٍ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين”. (القرآن الكريم- سورة المائدة/الآيتان 28 و29). وفي القرآن الكريم أيضاً: “منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً” (سورة المائدة/الآية 32). “ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ، ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبيْنَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم” (سورة فُصِّلت/ الآية 34). “وتَعاونوا على البِرِّ والتَّقوى وَلا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان” (سورة المائدة/الآية 2). ” وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يقاتلونَكُم ولا تَعْتدوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ المعتدين” (سورة البقرة/ الآية 190). إذن، في الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تقبل بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء مهما كانت الظروف والأعذار حتى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب. *** أيضاً، فإنّ سوء الأوضاع الرسمية العربية على مدى عقودٍ من الزمن، أدّى ويؤدّي إلى حالاتٍ من الثورة والانتفاضات الشعبية، لكن ماذا عن البدائل التي تُحاول وراثة هذا الواقع العربي الرسمي المريض والمرفوض؟ وهل هذه البدائل هي ما كانت تطمح إليه الشعوب؟ ثمّ ماذا عن دور القوى الخارجية في كلَّ ما حدث ويحدث، وعن مصالحها في فرض أسلوب “عسكرة” التغيير المحلي المنشود؟!.، فهي مراهنة خطيرة جداً في بعض المجتمعات العربية أن يحدث التغيير بواسطة تحرّك شعبي مسلّح لأنّ نتيجته حروباً أهلية وتفتيت كيانات، لا إسقاط أنظمة فقط. كذلك هي مراهنة خاطئة أيضاً، ومميتة أحياناً، عندما تُمارس الحكومات العنف الدموي القاسي ضدّ قطاعاتٍ من شعبها، حتّى لو كان وسط هذه القطاعات مندسّون وإرهابيون. فالعنف المسلّح الداخلي (مهما كان مصدره) يُولّد مزيداً من الأزمات الأمنية والسياسية، ولم ينجح في أيِّ مكان بتحقيق مجتمعاتٍ موحّدة مستقرّة.
إنّ المعارضات العربية معنيّة بإقرار مبدأ نبذ العنف في العمل السياسي، واتّباع الدعوة السلمية القائمة على الإقناع الحر، والتعامل بالمتاح من أساليب العمل السياسي، ثمّ التمييز الحازم بين معارضة الحكومات وبين تهديم الكيانات، حيث تخلط عدّة قوى عربية بين صراعها مع السلطات، وبين تحطيمها- بوعي أو بغير وعي- عناصر وحدة المجتمع ومقوّمات وحدته الوطنية. ثم أيُّ منطقٍ عربي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما يتصاعد أسلوب العنف المسلّح في داخل دولٍ عربية؟! وهل هي صدفةٌ سياسية أن يتزامن كلّ ذلك مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في كلّ البلاد العربية!!. اليوم، نجد ممارساتٍ عربية للعنف المسلح داخل الأوطان نفسها، ومناشداتٍ للخارج من أجل التدخّل العسكري في أزماتٍ عربية داخلية، بينما هناك قناعة عربية عامّة بإسقاط خيار الحرب أو المقاومة المسلحة ضدّ إسرائيل رغم استمرار احتلالها وتهويدها المتصاعد للقدس والأراضي المحتلة!!. تُرى لِمَ لا يتّم التوافق عربياً على أنّ “التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحلّ النزاعات العربية” وبأن “لا لاستخدام العنف المسلّح”. فقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية في رؤيتها للصراع مع إسرائيل؟!. فحيث تتوجّب المقاومة المسلّحة ضدّ عدوٍّ إسرائيليٍّ ظالمٍ محتل، يتمّ تبني خيار التفاوض والتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلح، وحيث يجب إسقاط أسلوب العنف المسلّح بين أبناء الوطن الواحد ودعوتهم للحوار الوطني الجاد، يحصل الآن التورّط والتصعيد في حروبٍ أهلية عربية!. فمن المفهوم استخدام العنف المسلح في مواجهة اعتداء خارجي، أو من أجل تحرير أرضٍ محتلة، لكن لا يجوز ولا ينفع هذا الأسلوب في تحقيق تغييرٍ سياسي أو في الحفاظ على نظامٍ سياسي. فالخطأ من جهة لا يبرّر الخطأ من الجهة الأخرى، والخطأ زائد خطأ لن يعادل صحّاً. *مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن |