ما الفرق بين الغزل والتحرش؟ | 28 نوفمبر

ما الفرق بين الغزل والتحرش؟

ثلاثاء, 03/04/2018 - 10:26

كما وضحت عدة مقالات مؤخراً بشكل متقن أنه بمجرد ما أن تحاول النسويات التحدث عن قضية التحرش الجنسي سواء بخصوص النداءات وعبارات الغزل (Cat calling) أو النظرات غير المريحة و التي تتعرض لها النساء بشكل شائع سواءً أثناء انشغالهن بتدبير أمورهن الخاصة في الشارع أو تعرضهن للتحرش الجنسي التقليدي في أماكن العمل- فمن المحتم اعتراض طرحهن بالحجة التالية مفترضين أنها ستنهي النقاش: “أليس الكثير مما تحاولن محاربته هو مجرد مغازلة غير مؤذية؟ ما مشكلتكن مع أشخاص يقومون بمغازلتكن؟”

قوة هذه الحجة تكمن في عدم وجود امرأة تريد الظهور كما لو كانت كبيرة بالسن و عاجزة جنسياً أو متصنعة للحياء مقابل رجال جذابين يعاملونها بلطف وطيبة و يقدمون لها الغزل بنيّة حسنة.

جميعنا نسعد عندما يتم التغزل بنا، أقلها أحياناً! و لكن حين نقول بأنه لا يتوجب على الرجال التقدم لامرأة يجدونها جذابة، ألسنا كمن نطالب بأنه لابد من منع المغازلة!

باعتقادي هذا الرد خادع لأن المغازلة وبشكل جليّ  ليس لها أي علاقة بالتحرشات التي تحدث في أماكن العمل و الشارع، و يعود ذلك لكون التحرش لا يُعد – تصنيفياً – شكلاً من أشكال المغازلة أو حتى مغازلة تمت بنيّة طيبة لكنها أخذت مجرىً خاطيء، و جميعنا ندرك هذا الأمر!

هناك اختلاف مهم بين أن تتم مغازلتك حتى في حال كان غير مرحباً بالمغازلة أو أن تحدث بطريقه غير ناضجة و بين التعرض للتحرش. وكلاً من الفاعل و المفعول به يدركان هذا الفرق. الجميع قادر على تمييز المغازلة عندما نكون في موقع المتلقي و كلنا نعلم ماهو التحرش في حال تعرضنا له و الجميع قادر على معرفة الفرق بين الفعلين.

الصفة الأساسية المتعلقة بالمغازلة و التي تجعلها بالفعل مغازلة تكمن في امتلاك الشخص الذي يُقدِم عليها إحساس عالي تجاه رغبات و دوافع الشخص الذي يقوم بمغازلته. المغازلة هي عبارة عن عملية إرسال إشارات بعناية و رقة و إيحاءات (micro behaviors) للشخص المنجذَب إليه: كتواصل عينين مطول قليلاً، أو لمسة سريعة على الذراع، أو ضحكة مبالغ فيها على نكتة ليست بالفعل مضحكة.

قطعاً المغازلة تشمل أيضاً وعي عالي تجاه الإيحاءات التي يُظهرها الطرف الآخر و محاولة ترجمة هذه الإشارات الصادرة عنه لمعرفة إن كان الإنجذاب مرحب به أم لا. فتكون الخطوة التالية هي أسئلة مثل: هل يستمر بالتواصل البصري أم عليه أن يشيح بنظره بعيداً؟ هل تجاوبَت معه بالمثل عندما لاطفها بلمسة سريعة على ذراعها أم قامت بالابتعاد بعض الشيء في إشارة منها له بالتوقف عن لمسها؟

بالتأكيد من الممكن لكل ذلك أن يتم بشكل سيء و قد يؤدي للسخرية و الإحراج و عواقبه قد تكون مؤلمة، فبعض المتغزلين سيئيين جداً في قراءة لغة جسد الآخر مما يجعلهم يقومون بأخطاء فادحة تؤدي لشعور الآخر بعدم الراحة و غرابة الموقف. و هذا أمر مؤسف و كم سيكون من الأفضل لنا جميعاً لو كانت المغازلة غير المتقنة معدومة – و لكن على الرغم من ذلك – نستطيع جميعاً أن ندرك بأن الأذى المترتب على هذا السلوك ليس كبيراً و أقصى ماقد يسببه تحسس بسيط أو حرج اجتماعي.

عندما يتقدم أحدهم لمغازلتنا رغم محاولتنا توضيح أن المغازلة غير مرحب بها، نشعر بالإحراج و غرابة الموقف ولكننا بالعادة لا نشعر بالتهديد أو الترهيب.

التحرش مختلف، و غالباً مايعود ذلك لنوايا المتحرِّش – و الذي بخلاف المتغزِّل – ليس حساساً تجاه رغبات و دوافع الشخص الذي يتحرش به. المتحرش عادة لا يملك الحساسية تجاه كل ذلك لأنه ببساطة غير مهتم بمن يتحرش بهم. هو شخص سيستمر بالمضي قُدماً في مساعيه الجنسية (sexual advances) متجاهلاً حقيقة أن تصرفاته غير مرحب بها من قبل الطرف الآخر. لقد كتبت في مدونتي عن تجربة تعرضي للتحرش خلال أحد المؤتمرات التي حضرتها. قد يعلق بعض القراء ببساطة كالتالي: “ألا يعتبر ذلك مغازلة غير مؤذية”؟

ولكن كوني المتعرضة لهذا السلوك أستطيع القول بكل تأكيد أن ذلك لم يكن مغازلة. لقد كان تحرشاً لهذا السبب: المتحرش كان غير مكترث و متغافل عن انزعاجي الواضح جداً. لو كان بالفعل يغازلني لحاول أقلّها قراءة لغة جسدي والتي كانت تبعث له إشارات واضحة و عالية: “أبقِ يداك بعيدةً عني”!

كانت تلك الإشارات واضحة و عالية لدرجة أنه تم إنقاذي من ذلك الموقف عن طريق اثنين من الأصدقاء ممن شهدوا انزعاجي. نعم أعلم بأنهم كانوا أصدقائي و يعرفونني جيداً و لكن مجرد ملاحظتهم للهلع و الانزعاج الذي أبديته من خلال نظراتي و سلوكي عن بعد يجعلني أعتقد أنه من المنطقي القول بأن المتحرش قد لاحظ ذلك أيضاً و بالتأكيد هذا ماكان سيلاحظه المتغزل. و لكن بالنسبة لي، ما جعل هذه التجربة مؤلمة في وقتها و مسببة للغضب لاحقاً هو مدى وضوح افتقاده لأدنى درجات الاهتمام بموقفي أو ردة فعلي تجاه ما قام به.

لم يكن مهتماً إن كان مثيراً لانزعاجي أو إن كنتُ غير مرتاحة. هو بالتأكيد لم يكن ينظر لي كانسانة على الإطلاق. لم يكن يملك أدنى اهتمام بأحاسيسي و رغباتي مهما كانت تلك الأحاسيس أو الرغبات. عندها أدركت أن ما جعل هذه التجربة ذات عمق لا انساني و تشييئي ليست الحقيقة البسيطة في كوني لا أريده أن يلمس رقبتي بل هو إدراكي لعدم اكتراثه بحقيقة كوني لا أريده أن يلمس رقبتي.

التحرش مؤلم و مُحط للقدر و السبب تحديداً هو أن المتحرش يُظهر قدراً ضئيلاً جداً من الاهتمام لرغبات و اهتمامات الشخص الذي يتحرش به و يعامله كما لو أنه انسان ناقص (بلغة كانط) متخذاً المفعول به وسيلة لإشباع رغباته الخاصة و متجاهلاً للطرف الآخر كنقطة نهاية تمتلك رغبات و أهداف و غايات خاصة.

و هذا مختلف عن المغازلة، لأنه حتى بحالة لم يكن المتغزل جيداً ما فيه الكفاية فأقلها مازال يحاول أن يترجِم بشكل صحيح دوافع و نوايا الشخص المتغزل به تجاه المغازلة. مفترضين بأنه لو كان لدى المتغزل أدنى فكرة عن أن مغازلته غير مرحب بها فسيشعره ذلك بالخزي و ينسحب، وهذا ما لن يفعله المتحرش لأنه ببساطة غير مهتم. التحرش هو إنكار لشخصية الآخر و قوته المؤثرة وهذا ما يجعل منه تجربة مؤلمة و مُجرِّدة للانسانية. الأكثر من ذلك أنها قد تكون تجربة مرعبة، ففي حال أن أحدهم أظهر عدم اهتمامه و اللامبالاة المطلقة تجاه إرادتك و رغبتك و استمر بالتصرف بطريقة تستغلك و تحتقرك لإشباع رغبته الخاصة فتخيل ماقد يستطيع ارتكابه أيضاً؟!

*ترجمة ملاك الشهري

لريبيكا كوبر

المصدر نون العربية